غزة- مقياس العروبة والإسلام والإنسانية في صراع فلسطين الحضاري.

في الذكرى السابعة والسبعين المؤلمة للنكبة الفلسطينية، تتبوأ غزة مكانة بارزة كمعيار حقيقي يعكس قيم العروبة والإسلام والإنسانية جمعاء.
عندما نتطرق إلى الحديث عن الصراع الدائر حول فلسطين، فإننا لا نقتصر على مجرد وصف معركة وطنية يخوضها شعب رازح تحت الاحتلال، بل نتعدى ذلك إلى صراع يجسد بوضوح أبرز تجليات المواجهة الحضارية الشاملة مع الغرب.
تضطلع إسرائيل في هذا الصراع بدور الذراع الطولى للغرب، وقاعدته المتقدمة التي يسعى من خلالها إلى فرض هيمنته وسطوته على منطقة المشرق الإسلامي برمتها، بينما تمثل فلسطين الأمة الإسلامية بعمقها الحضاري والعقدي الأصيل. إنه صراع متشعب الأبعاد الحضارية، يتجلى في العقيدة والثقافة والتاريخ العريق، كما يتجسد في الجغرافيا والسياسة والاقتصاد المؤثر، وله انعكاسات مباشرة على أوضاع الأمة وعلاقاتها المتشابكة في المنطقة العربية وخارجها.
إذا أمعنا النظر مليًا في طبيعة العلاقات التي تربط إسرائيل بالأقليات وبالأنظمة الدكتاتورية المستبدة في ربوع المنطقة العربية، وفي الدور الخبيث الذي تضطلع به إسرائيل وجماعات الضغط التابعة لها في الغرب في التحريض والضغط والتسهيل لقمع أية محاولات جادة للنهوض العربي والإسلامي، فسندرك حتمًا أن الصراع المحتدم في فلسطين والمنطقة هو صراع وثيق الترابط والتداخل: الشعب الفلسطيني يقف في الخط الأمامي، لكن في بعض الأحيان تكون الخنادق الخلفية أشد تأثيرًا، وأكثر خطورة وإراقة للدماء.
ثمة علاقة جدلية وثيقة تربط بين ساحات هذا الصراع المتشعب؛ ذلك أن صمود الشعب الفلسطيني الباسل، وأي إنجاز ثمين يحققه في صراعه المباشر مع العدو الصهيوني الغاشم، سينعكس إيجابًا على دول المنطقة وشعوبها المتعطشة للحرية والكرامة، وسيمنحها أملًا متجددًا في حتمية الانتصار المؤزر في هذا الصراع المصيري.
وبالمثل، فإن أية نهضة حقيقية واستقلال فعلي لأي قطر عربي أو إسلامي، سينعكسان بشكل إيجابي على صراع الشعب الفلسطيني العادل ضد إسرائيل التي تسعى جاهدة لإضعاف جميع دول المنطقة، بما في ذلك الدول التي طبعت علاقاتها معها، وذلك لإبقائها ضعيفة ومرتهنة، عاجزة عن ممارسة أي تأثير أو نفوذ أو استقلال حقيقي.
وانطلاقًا من رغبتنا الصادقة في أن تنهض أمتنا من كبوتها، وأن تتحرر فلسطيننا الحبيبة من براثن الاحتلال، فإننا نرى ضرورة ملحة لإدراك المتغيرات المتسارعة التي تعصف بالمنطقة والعالم، حيث تظهر أوضاع جديدة وصراعات ممتدة تتطلب استعدادات جذرية لمواجهتها، وتعديلات جوهرية من الدول والقوى الشعبية الفاعلة فيها على حد سواء. فبعد كل هذه التجارب القاسية والمحن المتتالية، لم يعد من المقبول أن تستمر الأنظمة العربية في الارتهان التام للأجندات الغربية وللسيّد الأميركي المهيمن.
وإذا كان من غير المقبول في سبعينيات القرن الماضي أن يُقال إن 99% من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة الأميركية، فكيف يُعقل أن تسلِّم اليوم أنظمة العرب، بعد أكثر من نصف قرن، إرادتَها كاملة لأميركا؟ لقد شكّل موقع فلسطين المتميز دينيًا وتاريخيًا وجغرافيًا في قلب الأمة العربية النابض، والتي هي بدورها قلب العالم الإسلامي، ساحة صراع مفتوح مع الغرب الطامع.
وفي العصر الحديث، تجسَّد هذا الصراع المرير بشكل واضح بإقامة دولة إسرائيل التي تمثل مشروعًا غربيًا استعماريًا بامتياز. لقد كان ضياع فلسطين، وإعلان قيام دولة الصهاينة الغاصبة عام 1948، نتيجة مباشرة للمواجهة المحتدمة بين الغرب الاستعماري العنصري، والشرق الإسلامي الجريح بعد انهيار دولة الخلافة العثمانية، وانهيار النظام السياسي الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى المدمرة.
إنّ الصراع على فلسطين، الذي يحمل في طياته كل هذه الأبعاد العقدية والثقافية والتاريخية العميقة، فضلًا عن أبعاده السياسية والاقتصادية والعسكرية المتشعبة، وما يترتب عليه من تداعيات خطيرة على المنطقة والعالم بأسره، يلخّص جوهر صراع الأمة الإسلامية مع الغرب وحضارته المادية، ويُعتبر صورة مصغرة دقيقة تعكس هذا الصراع وتختزله، وإن اختلفت بعض التفاصيل والأولويات الظرفية. ويمثل كذلك حالة اختبار حقيقية لجميع الأطراف المشاركة فيه، ويكشف بجلاء كل الدّعاوى الزائفة التي تسعى لعزل فلسطين عن بُعدها العربيّ والإسلامي الأصيل.
لقد شكّلت نكبتنا الأليمة في العام 1948 لحظة فارقة ومفصلية في تاريخ الصراع المرير مع الغرب. فقد نشأت دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين العربية، وكل التطوّرات اللاحقة التي شهدتها المنطقة، من حروب طاحنة ومفاوضات عقيمة ومعاهدات هدنة هشة أو اتفاقات سلام صورية منذ كامب ديفيد، مرورًا بأوسلو ووادي عربة، وصولًا إلى اتفاقات أبراهام المشؤومة حتى يومنا هذا، هي نتائج مباشرة لحرب العام 1948.
إن محاولة فهم أبعاد ما حدث في العام 1948 وأسباب هذا الانهيار الشامل والمدوي، تشكّل مدخلًا إجباريًا وضروريًا لفهم التحديات الراهنة والمعقدة التي تواجه فلسطين والمنطقة.
عربيًا، حصلت الدول العربية على ما يسمّى بالاستقلال الزائف بعد الحرب العالمية الثانية ضمن الحدود التي رسمها المستعمر الغاشم، وبالطريقة التي أرادها هو بكل التناقضات والمشاكل الحدودية التي تعمّد إثارتها، ووفق مصالحه الخالصة وأطماعه الدنيئة، وبعد أن نكث بكل وعوده الكاذبة.
أصبح للنخب السياسية العربية التي تشكّلت بعد ما سمّي بالاستقلال المزعوم، مصالحُ قُطرية ضيقة تدافع عنها ببسالة، وأصبحت العروبة مجرد شعارات بلاغية جوفاء ورنّانة تظهر على منابر المزايدات والخطب العصماء، بدل أن تكون دعوة جدية ومخلصة تتحدى شروط المستعمِر وتفكك قيوده. وقدّم سياسيو العرب مصالحهم الشخصية ومصالح أقطارهم الضيقة على أية مصلحة قومية عليا.
وهكذا، فإنّ الدول العربية التي زجت بجيوشها في حرب 1948 كان لها حسابات قُطرية مختلفة ومتناقضة، ولم تشارك في الحرب أو تفاوض بعدها بشأن الهدنات مع إسرائيل إلا بمفهوم قُطري أناني، بعيدًا عن أية إستراتيجية عربية موحدة، أو حتى تنسيق عربيّ شامل ومثمر.
ظهرت النخب السياسية والثقافية، في معظمها، مشوّهة ومنسلخة عن تاريخها العريق وثقافتها الغنية وعقيدة شعبها الراسخة، ومتنكّرة لها، ومهزومة روحيًا وعقليًا وعلميًا أمام حضارة الغرب المستعمِر وثقافته المادية.
لقد دخل العرب الحرب دون رؤية صائبة، ودون هدف مشترك واضح، ودون خطة عملية موحدة ومتكاملة، وبأعداد رمزية قليلة، حيث إن مجموع القوات العربية التي يُطلَق عليها جيوشٌ عربية كان أقل من 15 ألف مقاتل، في مقابل العصابات الصهيونية الإرهابية التي كان لها خُطة واضحة وهدف محدد وقيادة سياسية موحدة وتحالفات دولية واسعة، وأعداد بلغت 75 ألفًا، في أقلّ تقدير، من الجنود المدربين تدريبًا عاليًا.
باختصار، فشلت دول ما بعد الاستعمار المباشر فشلًا ذريعًا، وفشل زعماؤها السياسيون فشلًا مدويًا، وفشل المثقفون في مواجهة تحديات التغيير الجذري الذي أعقب الحرب العالمية الأولى، وكان سقوطها مهينًا ومؤلمًا في أوّل مواجهة حقيقية لها مع العصابات الصهيونية المدعومة.
بعد 77 عامًا من نكبتنا الأولى في فلسطين، نجد ما يسمى بالنظام العربي أسوأ حالًا وأكثر ضعفًا وهشاشة؛ فلا يجرؤ أن يرسل قطرة ماء نقية أو كسرة خبز يابسة إلى شعب فلسطين الصامد الذي تصنع له إسرائيل نكبة جديدة على رؤوس الأشهاد.
قرارات القمم العربية ومناشداتها الخجولة أقل بكثير من الشعارات البراقة التي رفعها زعماء عرب حول الأمة الواحدة الخالدة وحول تحرير فلسطين بعد نكبة 1948.
التسليم التام للإدارة الأميركية التي تحمي إسرائيل وتمدها بآلة الدمار الشامل يذكرنا بالطلب الساذج من الشعب الفلسطيني بالركون إلى الهدوء الزائف؛ استجابةً لوعود صديقتنا حكومة صاحبة الجلالة الكاذبة قبل نكبة 1948.
إنّ الاستسلام الكامل للإملاءات الأميركية وتسليمها مقدرات شعوب الأمة المنهكة، والرعب الشديد من إسرائيل وهرولة البعض المخزية إلى التطبيع معها وإشاحة النظر المتعمدة عن الجرائم المروّعة التي يرتكبها العدو الصهيوني في غزة والضفة الغربية والقدس المحتلة، وسياسة التجويع الممنهج والتطهير العرقي البشع، يبشّر بسقوط مدوٍّ ومخزٍ لكل من صمت أو بارك أو برر جرائم العدو البشعة، كما حدث لأنظمة نكبتنا الأولى المشؤومة في العام 1948.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.